لم يكن هناك أي تواجد واضح للميليشيات الطائفية في المدن المنكوبة قبل عام 2014، إلا أنه وبعد انتهاء العمليات العسكرية واستعادة القوات الأمنية السيطرة على المدن في نهاية عام 2017، شهدت هذه المدن انتشارا كبيرا للميليشيات في جميع مرافقها.
تحقيق استقصائي لوكالة “يقين” يكشف عن ممارسات الميليشيات الطائفية في المدن المنكوبة واستفزازاتها للسكان.
انتشار الميليشيات في المدن المنكوبة
“أصبحت شوارع الموصل تتشح بالسواد في كل مناسبة دينية، أعلام الميليشيات فوق الأبنية الحكومية والجامعية وعلى أعمدة الكهرباء في الجسور الرئيسة، ولا مفر من ذلك”، بهذه الكلمات يصف المواطن الموصلي “طلال أحمد” حال مدينة الموصل بعد استعادتها من تنظيم الدولة (داعش) في عام 2017.
ويكشف أحمد في حديثه لوكالة “يقين” عن أن الميليشيات لها الدور الأمني الأكبر في الموصل، إذ أنه غالبا ما نرى أرتالهم العسكرية وهم يحملون أعلامهم الطائفية فوق العربات العسكرية، فضلا عن أن أسواق الموصل ومراكزها التجارية التي باتت مليئة بالأعلام الطائفية والسوداء، وكل هذا ينم عن رسالة يريدون إيصالها لأهل الموصل، مفادها أنهم باتوا هم المسيطرين على الموصل.
“ما لا يقل عن 20 ميليشيا منتشرة في مدينة تكريت وحدها، وأن غالبية هذه الميليشيات تتعمد استفزاز السكان”
أما المواطن “هاشم الجبوري” من مدينة تكريت مركز محافظة صلاح الدين، فيكشف في حديثه لوكالة “يقين” عن أن أهالي مدينة تكريت باتوا يسمونها عاصمة الميليشيات في العراق، بحسب وصفه.
ويضيف الجبوري في حديثه لوكالة “يقين” أن ما لا يقل عن 20 ميليشيا منتشرة في مدينة تكريت وحدها، وأن غالبية هذه الميليشيات تتعمد استفزاز السكان من خلال تشغيل أغاني طائفية في عرباتها العسكرية، وبعضها فيه سب وطعن لرموز وصحابة رسول الله، فضلا عن ممارسات أخرى مستفزة خلال عمليات التفتيش والدهم للأحياء السكنية.
ويختتم الجبوري حديثه لوكالتنا بالإشارة إلى أن مشكلة مدينة تكريت الرئيسة تتمثل في دوائرها الحكومية، إذ أن كثيرا من الكوادر الوظيفية في مديريات الجنسية والأحوال المدنية والجوازات والمرور والمحاكم ليسوا من محافظة صلاح الدين بل تم استقدامهم من محافظات أخرى، وهم بالغالب يتبعون ميليشيات طائفية تمارس ابتزازها للمواطنين في دوائر الدولة، فمثلا كل من اسمه “عمر” أو “أبو بكر” أو “عثمان” يواجه معضلات كبيرة خلال المعاملات الرسمية، فضلا عن كلام مستفز عن الاسم ونصائح باستبداله، بحسب الجبوري.
إقرار برلماني
وفي السياق، يقول النائب في البرلمان عن محافظة نينوى “شيروان الدوبرداني” إن المحافظات المستعادة من تنظيم الدولة (داعش)، باتت مقرا للميليشيات التي تتبع أحزابا حاكمة، لافتا في حديثه لوكالة “يقين” إلى أن محافظة نينوى ابتليت بالحشد الشعبي والفصائل الطائفية المنضوية تحت رايته، إذ أن الملف الأمني في المدينة تسيطر عليه مديرية أمن الحشد التي تتخذ من منطقة الغابات مقرا لها.
“مناطق في محافظة ديالى وعشرات القرى حول جيال حمرين لا زال أهلها ممنوعون من العودة إليها”
وأضاف الدوبرداني أن المشكلة الكبرى في نينوى تكمن في منطقتين، أولها مدينة الموصل وانتشار الميليشيات ومكاتبها الاقتصادية بين أحيائها، إضافة إلى مناطق سهل نينوى التي يسيطر عليها الحشد الشعبي (لواء 30) والذي يضيق على سكان تلك المنطقة من الكرد والعرب، إذ أن هذه الميليشيات تمنع أي عربي سني أو كردي من البناء أو الاعمار في تلك المناطق، فضلا عن مصادرة الكثير من البيوت والاراضي الزراعية بحجج واهية.
أما النائب السابق في البرلمان “حامد المطلك” فيرى في حديثه لوكالة “يقين” أنه لمن العار على الحكومة أن تستمر مخيمات النازحين في الوجود بسبب منع الميليشيات لسكان القرى والبلدات المحررة من العودة إليها، إذ أن هناك عشرات القرى والبلدات التي باتت مقرات لميليشيات طائفية مثل مناطق الجنابيين والقراغول ويثرب وسلمان بيك ومجمع الصينية وذراع دجلة ومنطقة خط اللاين وعزيز بلد وجديدة عرعر وبيار الحجاج ومجمع النخيب فضلا عن جرف الصخر.
مؤكدا أن مناطق أخرى في محافظة ديالى وعشرات القرى حول جيال حمرين لا زال أهلها ممنوعون من العودة إليها، لافتا إلى أن هذه المناطق باتت منطلقا لتلك الميليشيات في فرض أفكارها وسطوتها العسكرية على السكان.
وعن المضايقات التي تفتعلها تلك الميليشيات تجاه السكان في المدن المنكوبة، أوضح النائب السابق أن هدف الميليشيات منذ انشائها هو التنكيل والتوسع لحساب أجندات طائفية واقليمية، وهو ما ينفذ على الأرض بخطة معدة مسبقا، بحسب المطلك.
كيف تنشر الميليشيات أفكارها؟
“الميليشيات ومن خلال سيطرتها على محطة توزيع الكهرباء في منطقة تازه، فإنها تقطع الكهرباء عن مناطقهم لفترات تزيد على الـ 16 ساعة في اليوم”
طرق عديدة تلك التي تعتمدها الميليشيات في فرض إرداتها وأفكارها على المدن المستعادة، إذ يقول الأكاديمي في جامعة الموصل والذي عرّف عن نفسه بـ “رضوان الصفار” إن تزيين الشوارع والطرقات بالأعلام السوداء وإقامة الشعائر و”اللطميات” والتطبير بين أزقة المدن وأحيائها المختلفة، يعطي انطباعا بأن هذه المدن باتت تتبع لطائفة معينة، فضلا عن أن هذه الأفعال تشد الشباب الصغار من الذين تتراوح أعمارهم بين (12 والـ 17) عاما.
ويضيف الصفار في حديثه لوكالة “يقين” أن هذه الشباب في هذه الاعمار غير مدركين بعد للتحديات التي تعيشها البلاد، وبالتالي فإن الميليشيات تحاول كسب ودهم من خلال الأموال والاحتفالات والمهرجانات، لافتا إلى أن بعض الشباب الصغار باتوا يستمعون إلى الأغاني الطائفية التي فيها سب للصحابة وللرموز الدينية، بحسب تعبيره.
أما في محافظة الأنبار، فإن طبيعة نشر أفكار الميليشيات تختلف عن بقية المحافظات، وخاصة في مناطق غرب الأنبار، كما يؤكد ذلك أحد أعيان مدينة القائم “سليمان الدليمي” الذي يرى أن الحشود والميليشيات الطائفية تستغل الفقر المتقع الذي تعاني منه شريحة واسعة من أبناء غرب الأنبار، من أجل كسب جديد لشباب يافعين تعمل عليه تلك الميليشيات.
ويكشف الدليمي عن أن بعض المناطق الغربية مثل عنة وراوة وحديثه والقائم انضم العشرات من شبابها إلى الميليشيات الطائفية وباتت تستخدمهم في عمليات الدهم والتفتيش والعمليات العسكرية في الصحراء، بعد أن أغرتهم بأموال كبيرة، بحسبه.
وإلى التأميم، فيشتكي سكان قضاء الحويجة ومناطق الدبس والرشاد من مضايقة الميليشيات التي تسيطر على غالبية الدوائر الحكومية، إذ يقول الموطن “عماد ثابت” من منطقة الرشاد إن الميليشيات تحارب سكان مناطق الحويجة وما جوارها من خلال عدة أساليب اقتصادية واجتماعية، وذلك بعد أن رفض شبابها الانضمام للميليشيات في تلك المناطق.
“فصائل الحشد تسعى للتوسع في المناطق المستعادة من تنظيم الدولة (داعش)”
ويكشف ثابت في حديثه لوكالة “يقين” عن أن الميليشيات ومن خلال سيطرتها على محطة توزيع الكهرباء في منطقة تازه، فإنها تقطع الكهرباء عن مناطقهم لفترات تزيد على الـ 16 ساعة في اليوم، مشيرا إلى أن الكهرباء الواصلة إليهم لا تتجاوز الفولطية فيها 140، وبالتالي لا يستفيد الاهالي منها في شيء.
ويؤكد هذا الطرح مصدر مسؤول في قائمقامية قضاء الحويجة، إذ يقول إن مناطقهم تعاني من تدهور كبير في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، بعد أن ضيقت الدوائر الرسمية الخناق على هذه المناطق.
ويكشف المصدر الذي فضل عدم الكشف عن هويته في حديثه لوكالة “يقين” عن أن توزيع كهرباء تازه تسيطر عليها الميليشيات وعند مخاطبتهم بكتب رسمية جاء الرد شفويا ونصه: “من الجيد لكم أننا نزودكم ببعض الكهرباء، كلكم دواعش”، على حد قوله.
الموصل.. ممارسات طائفية
وبالعودة إلى محافظة نينوى، التي تعد ثانية كبريات المحافظات العراقية في عدد السكان، يقول مدير دائرة الأوقاف في نينوى “أبو بكر كنعان” في حديثه لوكالة “يقين” إن التضييق على الموصليين قد يؤدي إلى مآلات خطيرة على المشهد الامني في المحافظة.
ويكشف كنعان عن أن الوقف الشيعي مدعوما بأرتال عسكرية تتبع جهات مجهولة بالنسبة للوقف، استولوا على عدة عقارات تجارية ومساجد تابعة للوقف السني، ومن بينها جامع النبي يونس والأرض المقابلة له التي تحولت إلى سوق، إضافة الى بعض العمارات التجارية في منطقة الدواسة في الجانب الأيمن من الموصل.
“المكاتب الاقتصادية والفعاليات الدينية للميليشيات باتت تؤرق سكان المدن المنكوبة”
ويضيف كنعان أن هذه التصرفات يراد منها تغيير تسمية تلك المساجد وتشييعها وتحويلها إلى المذهب الشيعي، على الرغم من أن مدينة الموصل تعرف على انها سنية بحتة، بحسبه.
من جانبه يشير المفكر والباحث في الشأن العراقي “محمد مؤيد” إلى أن استيلاء الوقف الشيعي على عقارات ومساجد في الموصل يراد منه هدف واحد بات جليا لسكان الموصل، ويتمثل بنشر الطائفية ونشر الميليشيات لسياساتها التوسعية في الموصل وغالبية المدن المنكوبة، بحسبه.
الحشد يرد
“الوقف الشيعي مدعوما بأرتال عسكرية تتبع جهات مجهولة بالنسبة للوقف، استولوا على عدة عقارات تجارية ومساجد”
لكن القيادي في الحشد الشعبي “كريم النوري” ينفي جميع ما يشاع عن أن فصائل الحشد تسعى للتوسع في المناطق المستعادة من تنظيم الدولة (داعش)، مؤكدا في حديثه لوكالة “يقين” أن الحشد بات مؤسسة رسمية أمنية تابعة لرئاسة مجلس الوزراء، وبالتالي فإن هذه القوات تتعامل مع المواطنين وفق القوانين التي يعمل بها الجيش والشرطة، بحسبه.
وعن بعض الممارسات التي تنفذها الميليشيات في مدن المنكوبة، يقول النوري إن الحشد الشعبي بريء من التهم الموجهة إليه، وأن ما حدث من بعض التجاوزات هي أفعال لمجاميع منفلتة غير تابعة للحشد، على حد قوله.
وأكد القيادي أن مديريات أمن الحشد تتابع هذه الممارسات وقد اعتقلت قبل أيام زهاء 17 عنصرا من ميليشيا كانت تدعي انتماءها للحشد في ديالى بعد أن تبين للحشد وفق القرائن والادلة أن هذه الميليشيات تبتز المواطنين وتضطهدهم باسم الحشد الشعبي، بحسب النوري.
مآلات خطيرة في المدن المنكوبة
يؤكد الكثير من المراقبين في المدن المنكوبة أن الأوضاع في تلك المدن باتت تشهد شكاوى عديدة من تصرفات الحشد الشعبي والميليشيات بعد أن انتشرت في أحياء المدن المنكوبة، بحسب الصحفي العراقي “أحمد يونس” الذي يرى أنه في حال استمرار الأوضاع على ما هي عليه، فإنه من غير المستبعد ان تشهد المدن المنكوبة تدهورا أمنيا كبيرا مرة أخرى بعد سنوات الحرب الطويلة.
“رفع الميليشيات لراياتها الخاصة دون العلم العراقي يفقد ثقة المواطن بالمنظومة الأمنية”
ويشير يونس في حديثه لوكالة “يقين” إلى أن المكاتب الاقتصادية والفعاليات الدينية للميليشيات باتت تؤرق سكان المدن المنكوبة، فضلا عن الاستفزازات التي تمارسها تلك الميليشيات في المناطق التي تنتشر فيها.
ويتابع يونس بالقول: “الفوضى عادت لتضرب المدن المستعادة مرة أخرى، فلا سلطة مركزية، والمدنيون يجهلون تبعية القرار الأمني ومن المسيطر عليه، وهذا يسبب العديد من المشاكل، خاصة في حالات التفتيش والمداهمات“.
أما أستاذ القانوني الدولي “خالد المولى” فأوضح أن جميع ما صدر من أوامر ديوانية لرئيس مجلس الوزراء “عادل عبد المهدي” من إعادة هيكلة للحشد الشعبي ومنعه من رفع رايات باستثناء العلم العراقي لم تطبق حتى اللحظة على الرغم من مضي شهرين على الأمر الديواني.
وأكد المولى في حديثه لوكالة “يقين” على أن رفع الميليشيات لراياتها الخاصة دون العلم العراقي يفقد ثقة المواطن بالمنظومة الأمنية في البلاد مع تعدد جهات اتخاذ القرار وسلطة الميليشيات التي تفوق سلطة الجيش والشرطة في المحافظات المستعادة، ما يشير إلى أن الثقة التي حظيت بها الأجهزة الأمنية بعد انتهاء العمليات العسكرية في عام 2017 بدأت تتراجع إلى مستويات قريبة مما كانت عليه قبل عام 2014، وهذا ما لا يبشر بخير، بحسب تعبيره.
المصدر:وكالة يقين